اخلعي حجابك.. استردي كرامتك

هذا هو شعار الدعوة لمليونية خلع الحجاب التي أطلقها شريف الشوباشي والشعار مأخوذ عن حملة “اخلعي حجابك.. استردي كرامتك” الفيسبوكية التي أطلقها اسماعيل حسني في ذكرى وفاة قاسم أمين. الموضوع إشكالي على عدة مستويات،  فمن ناحية، لا يمكن أن نتجاهل هنا أننا بصدد رجال “يطالبون” النساء بالنضال من أجل حريتهن بل ويملون عليهن وسائل تحقيق هذا الهدف السامي. ولكن هل المشكلة الأساسية تكمن في كون الدعاة من الرجال؟ هل القضية النسوية تختلف عن قضايا أي مجموعات مضطهدة أخرى بحيث لا يمكن لأنصار القضية ممن يتمتعون بامتيازات المجموعة  المسيطرة التضامن والنضال من أجل القضية؟ رأيي أنها لا تختلف، يمكنهم التضامن والنضال، بل ينبغي عليهم، ولكننا لسنا هنا بصدد تضامن بل بصدد وصاية سلطوية، وإن لم تكن عبثية الوضع واضحة فلنتخيل لو أن رجل أمريكي أبيض خرج على الملونين يطالبهم، بل يأمرهم بالتمرد على العبودية واستعادة كرامتهم. صيغة مثل هذه الدعوات تحمل إدانة للمجموعة المضطهدة، كأن القمع الذي تعاني منه سببه تخاذلها في التمرد ضد هذا القمع نفسه. نحن بصدد رجل يتمتع بامتيازات النوع والطبقة يطالب النساء اللاتي تعانين من قهر النوع (والطبقة في أغلب الأحيان) بتحدي العالم ودفع ثمن هذا التحدي، الثمن الذي لن يضطر صاحب الدعوة يوماً أن يدفعه ولم يخطر على باله من الأساس. فهل فكر هؤلاء الرجال فيما قد يحدث للفتاة أو المرأة التي فرض عليها الحجاب من أهلها أو زوجها أو بضغط من المجتمع لو أنها قامت بخلع الحجاب؟ هل فكروا في احتمالية أن تتعرض هذه المرأة للإيذاء البدني أو التشويه أو حتى القتل؟ هل يتخيلون أن ما كان يمنع  النساء من اتخاذ هذه الخطوة هو عدم ادراكهن لأن الحجاب المفروض عليهن هو قيد لحريتهن وكن بانتظار مثل هذه الدعاوي لتنتبهن لهذا الأمر؟ هل فكروا في واقع أن الحجاب هو بالنسبة لكثير من النساء وسيلة تفاوض مع قوانين المجتمع للتحايل على القيود المفروضة عليهن، وبدونه لا تستطعن الخروج والدراسة والعمل وممارسة الحياة الاجتماعية؟ أن تتمرد المرأة على وضع مفروض عليها هو أمر رائع ولكن له تبعات ستتحملها المرأة وحدها، ومن حقها وحدها أن تقرر متى وإذا كانت مستعدة لدفع هذا الثمن، وفي هذه الحالة فإن أي دعوة تحثها على القيام بذلك دون أن يكون صاحب الدعوة عرضة لنفس المخاطر التي يطالبها بالتعرض لها هو نوع من المزايدة الفجة.

من ناحية أخرى، ماذا عن النساء اللاتي ترتدين الحجاب عن اقتناع ولم يفرض عليهن؟

في حديث للشوباشي قال أن “ليست كل محجبة فاضلة و٩٩٪ من العاهرات محجبات”، وهو تصريح ليس بالضرورة خاطىء، فالحجاب قد تحول الى زي شبه رسمي للمصريات سواء للأسباب المذكورة في الفقرة السابقة أو عن اقتناع بعضهن بالحجاب كفريضة دينية، وبالتالي فليس الحجاب مرادفاً للفضيلة، كما أن “العاهرات” هم في نهاية الأمر نساء مصريات تخضعن لنفس الظروف التي تجعلهن ترتدين الحجاب (هذا إلى جانب تحفظي الشديد تجاه استخدامه للفظ “عاهرات” الذي من غير الواضح إن كان المقصود به  النساء اللاتي تقدمن الخدمات الجنسية بمقابل مادي وفي هذه الحالة فإن مصطلح “عاملات الجنس” هو المصطلح المتداول في المجتمعات المتحضرة التي تؤمن بحق المرأة في جسدها بما في ذلك استخدامه كوسيلة للكسب، أم أنه يستخدم لفظ “عاهرات” كحكم أخلاقي لوصم نساء اخترن انتزاع حقهن في ممارسة الحرية الجنسية وهو في كلتا الحالتين يتنافي مع ادعاءه كونه المدافع عن الحريات) ولكن في المقابل وبنفس المنطق ليست كل امرأة غير محجبة متحررة، أو أنها بالضرورة غير خاضعة للقمع ومصانة كرامتها. ولذلك فشعار “اخلعي حجابك استردي كرامتك”  هو ليس فقط مهين لكل محجبة ترتدي الحجاب عن اقتناع باعتبارها اختارت أن تهدر كرامتها، بل هو يفترض أيضاً أن تلك النساء مغيبات لدرجة أنهن لا تدركن كون حجابهن مهدر لكرامتهن بالأساس، وهن بحاجة لرجال مثل الشوباشي واسماعيل حسني لأن ينيروا لهن الطريق وينبهوهن للحقيقة التي لم تستطع عقولهن الصغيرة من إدراكها.

  هذه المقاربة ليست فقط سلطوية أبوية وإنما هي أيضاً مقاربة بيضاء، فهذا هو ذاته خطاب النسوية البيضاء  White Feminism التي تحمل نظرة استشراقية واستعلائية للنساء العرب وتعتبر كل امرأة محجبة هي بالضرورة ضحية يجب انقاذها، من نفسها إذا لزم الأمر.

.لنأخذ مجموعة فيمينFEMEN كمثال، فبعيداً عن التحفظات الرجعية المتعلقة بالعري واستخدام الجسد، المشكلة الأهم في مقاربة فيمين لقضايا النساء العرب هي أنهن مجموعة من النسويات الأوروبيات البيض (حتى وإن قمن بتطعيم مجموعتهن ببعض العناصر العربية) اللاتي أخذن على عاتقهن بدون دعوة مسؤولية “إنقاذ” النساء العرب والمسلمات اللاتي لسن بالضرورة بحاجة لإنقاذ أو أن مفهومهن للقمع الاتي تتعرضن له مختلف عما تفترضه مجموعة فيمين بقناعة عمياء وتصر على تحريرهن منه.

  على صعيد آخر، فبالرغم من أن دعوة الشوباشي (واسماعيل حسني من قبله) تبدو في ظاهرها دعوة من أجل حرية المرأة و”استرداد كرامتها”، إلا أنه في متن دعوته يطالب الشوباشي النساء بخلع الحجاب للتعبير عن “رفضهن للإسلام السياسي”، وهنا تظهر مجموعة جديدة من الإشكاليات، فها نحن مرة أخرى بصدد استخدام قضية نسوية من أجل تحقيق مكسب سياسي، ولست أعني هنا أن النسوية منفصلة عن السياسة، ولكن أعني بذلك تاريخ طويل من استغلال الأحزاب والحركات والشخصيات السياسية – من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين – لقضايا المرأة فقط من أجل تحقيق المكاسب، فلا أحد يهتم بحقوق المرأة إلا عندما يتعلق الأمر بمنفعة سياسية مباشرة، نأخذ على سبيل المثال حماس الأحزاب الشديد لتمكين المرأة من التصويت في الانتخابات في مقابل تجاهل نفس الأحزاب لباقي قضايا المرأة باعتبارها قضايا ثانوية. إن ربط الشوباشي الحجاب بالإسلام السياسي الذي صار مرادفاً للإرهاب ومطالبته للنساء بالتعبير عن رفضهن له هو ليس فقط استغلال للنساء من أجل تحقيق مكسب أو هدف سياسي، ولكنه أيضاً يحمل مغالطة كبيرة، فبينما كان منطقياً ربط الحجاب بالمد الوهابي والإسلام السياسي في بداية الثمانينات وحتى التسعينات، إلا أنه في يومنا هذا اعتبار الحجاب رمزاً مباشراً الإسلام السياسي/الإرهاب هو تجاهل لواقع اجتماعي تكون على مدار ٣٠ عام تحول فيها الحجاب في كثير من الحالات إلى عرف اجتماعي لا علاقة له بالسياسة أو حتى بالدين أحياناً. إن مطالبة المحجبات بخلع الحجاب للتعبير عن رفضهن للإسلام السياسي يفترض ضمنياً أن من لا تخلع حجابها هي بالضرورة مؤيدة له، وهو افتراض غير منطقي في ظل نزول ملايين المحجبات للمشاركة في تظاهرات ٣٠/٦ لإسقاط الإخوان، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

ولأن الدعوة لمليونية خلع الحجاب هي بالأساس دعوة رعناء في أفضل تقدير (ينطبق الأمر ذاته على حملة الفيسبوك)، فقد كانت أغلب الردود الرافضة للدعوة على نفس القدر من الرعونة أو التبسيط المخل. انحصرت الردود بين كون الحجاب حرية شخصية متجاهلين واقع الضغط الاجتماعي والعائلي الذي تعاني منه الكثير من النساء المفروض عليها الحجاب، وبين كون الحجاب فريضة اسلامية ومن ينادي بخلعه هو خارج عن الدين. هذا يقودنا للخلل الأكبر في منطق دعوات خلع الحجاب، فهي  تعتمد في حجتها على كون الحجاب ليس فريضة دينية ويجتهد أصحابها في إيجاد الحجج والفتاوى وتصريحات الشيوخ والمنظرين لإثبات ذلك، ليقابلوا بردود من يرون الحجاب فريضة، مسلحين هم الآخرين بالمزيد من الحجج والفتاوي وتصريحات الشيوخ والمنظرين وندخل في دائرة مفرغة من الفتاوى المتبادلة. هناك تناقض واضح بين الدعوة الجادة للمطالبة بالحرية وبين الاستناد إلى الحجج الدينية والدخول في مثل هذه الجدالات. فماذا لو  افترضنا أن الحجاب فريضة دينية؟ أيسقط الحق في الاختيار في هذه الحالة باعتبار الدين أمر واقع علينا مجبرات على الالتزام به؟ أليست المادة الثانية من الدستور تنص على أن مصر دولة اسلامية تستمد قوانينها من الشريعة؟ هل مصير أجسادنا متوقف على فتوى من شيخ الأزهر أو مفتي الجمهورية تحدد معايير ومفاهيم الحرية التي يمكننا المطالبة بها؟ إن ما تعنيه الحرية هو أنه حتى وإن كان الحجاب فريضة فمن حقي أن اختار الالتزام بها أو تركها، بل من حقي ترك الدين كله إذا أردت. ولكن أيجرؤ الشوباشي أو غيره على المطالبة بذلك؟ فبدلاً من مطالبة النساء بخلع الحجاب لاسترداد الكرامة والحرية، من باب أولى مطالبة الدولة التي تشرف على قمع هذه الحرية برفع يدها عنا، بأن تكفل للنساء حرية الاختيار وتضمن حمايتهن والدفاع عنهن. فمن العبث والنفاق والسطحية مطالبة النساء بخلع الحجاب وكأنه العقبة الوحيدة في طريق القضاء على الإسلام السياسي والتحول إلى دولة علمانية “متحضرة” بينما دستورها ينص أنها دولة دينها الإسلام ، بينما يعاقب بالحبس من يعلن إلحاده، بينما تصر الدولة على الإبقاء على خانة الديانة في البطاقة. ولكن لماذا يورط الشوباشي نفسه في مواجهة مع السلطة القمعية التي يبدوا أنه متصالح تماماً مع ممارساتها بينما يمكنه تحقيق البنط الإعلامي والسياسي وأن يعيش وهم المناضل من أجل العلمانية والحريات بالجعجعة في وجه النساء وتحميلهن عبء تجميل دولته الرجعية؟ ففي النهاية المظهر هو كل شيء.

كتابة،

لبوة عاقلة

أضف تعليق